الثلاثاء، 11 يونيو 2013

من هنا نبدأ! (1)

الهدى المنهاجي في سورة العلق/ الجزء الأول


لفضيلة الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي 


نشر بجريدة المحجة الصادرة بفاس بتاريخ 11 صفر الخير 1428ه/02 مارس 2007م/ العدد 272


إن مطلع سورة العلق من أوائل ما نزل بإجماع العلماء، ثم نزلت بعد ذلك الآيات التي تضمنتها السورة.

وتيسيرا على القارئ الكريم نورد النقط الأساسية أو بعض معالم الهدى المنهاجي في هذه السورة كلها على الشكل التالي:


أولا: أول الطريق القراءة باسم ربنا، فبلا قراءة لا علم، وبغير اسم ربنا لا قدرة ولا انتفاع:

وذلك مما يستلزم :

-
أن التفوق في العلم بلغة اليوم هو الخيار الاستراتيجي والطريق المعبد للإمامة الحضارية.

-
أن الإصلاح يبدأ من الأفكار قبل الأعمال، ومن الباطن قبل الظاهر، ومن الأصل قبل الفرع، ومن الفرد قبل الجماعة..

-
أن التبرؤ من الحول والتوكل على الله الذي ليس إلا منه الحول وهو رأس الحول.


ثانيا: أول العلم العلم بربنا: خالقا ومعلما لنا ثم العلم بالإنسان  من حيث هو إنسان) مخلوقا ومعلما من ربنا:

وذلك مما يستلزم:

-
ذكر نعم الله تعالى طريقا للعلم به والخشية له وعلى رأس تلك النعم نعمتا الخلق والتعليم.

-
تركيز الاهتمام بالإنسان لتميزه موقعا وتكريما وتعليما.

-
التعليم أكبر مظهر للتكريم.


ثالثا: الطغيان أبرز أدواء الإنسان، وفي توهم الشعور بالاستغناء سر الداء، وفي الاستيقان بالرجوع إلى ربنا سر الدواء:

وذلك مما يستلزم:

-
ملازمة الشعور بالافتقار إلى الله تعالى.

-
ملازمة ذكر الموت والآخرة والرجوع إلى الله تعالى.

-
ملازمة الوقوف عند حدود الله تعالى وعدم التعدي.


رابعا: الله تعالى يتولى الدفاع بنفسه عن عبده إذا استجمع ثلاثة شروط:

-
إذا صلى، وكان على الهدى، وأمر بالتقوى. أي إذا كان موصولا به في قلبه/ سائرا على هداه في حياته/ داعيا غيره إلى تقوى ربه.


خامسا دفاع الله تعالى عن عبده يكون بأمور:

1-
بفضح طغيان غيره عليه، وبيان اتصاف عبده بكل ما يقتضي الإحسان إليه بدل الإساءة إليه، وتخويف الطاغي عليه برؤية الله تعالى لا محالة، فإن لم ينتبه الطاغية يكون الدفاع.

2-
بالتهديد بالأخذ المباشر، والهجوم عليه بالقول المباشر، وتحديه بالفعل المباشر.


سادسا: واجب عبد الله تجاه أي طاغية ينهاه عن فعل ما أمر به الله هو:

-
عدم الطاعة له، والسجود له، والاقتراب من الله.


سابعا: خلاصة هدى السورة (للعبد المؤمن):

1-
تعلم الحق (كما هو خالصا من الله جل جلاله):

2-
العمل بالحق والثبات عليه كما أمر الله جل جلاله، اتصالا به، وسيرا على هداه، وأمرا بتقواه.

3-
الصبر على أذى الطغيان دون طاعة له ولا رد مادي عليه، إلا رد البيان لحق المحق وخطر مصير المبطل.


المفروض أن يكون كل قارئ لهذه النظرات قد رجع إلى مختلف التفاسير ليتعرف على معاني السورة حسب الطاقة، لأنني ههنا لن أتحدث عن المعاني، وإنما سأتحدث عن شيء آخر زائد عن المعاني، هو هذا الهدى المنهاجي الذي يمكن أن يستفاد من هذه السور في زمننا هذا، في ظرفنا هذا.

وسورة العلق من أول ما نعمل –بحول الله وقوته- على تلمس الهدى المنهاجي فيها. ومن الأمور التي يمكن استفادتها من هذه السورة ما يلي:


أولا: أول الطريق القراءة باسم ربنا، فبلا قراءة لاعلم، وبغير اسم ربنا لاقدرة ولا انتفاع أي الإبصار بعين الوحي وميزانه:

وذلك مما يستلزم:

-
أن التفوق في العلم بلغة اليوم هو الخيار الاستراتيجي والطريق المعبد للإمامة الحضارية.

-
أن الإصلاح يبدأ من الأفكار قبل الأعمال، ومن الباطن قبل الظاهر، ومن الأصل قبل الفرع، ومن الفرد قبل الجماعة..

-
أن التبرؤ من الحول والتوكل على الله الذي ليس إلا منه الحول وهو رأس الحول.

ويستفاد هذا الأمر من مطلع السورة الذي هو أول ما نزل من كتاب الله عز وجل.

فأول الطريق ليكون الإنسان مسلما مؤمنا، صالحا مصلحا،هو القراءة باسم الله، باسم ربنا، أي الإبصار بعين الوحي وميزانه. فبلا قراءة لا علم، وبغير اسم ربنا لا قدرة ولا انتفاع.

ومعنى هذا الكلام أني إذا أردت أنا الفرد أن أكون مؤمنا حقا من أين أبدأ؟ هل أبدأ بأن ألبس جلبابا أو أضع حزاما أو عمامة أو أي شيء آخر. لا.

البدء أولا يكون بالعلم، بالعلم الشرعي، لأنه لا يحل لامرئ مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.

ولكن الآن ونحن في هذه النقطة بالذات، نقطة من أين بدأ الله عز وجل بعبده محمد صلى الله عليه وسلم الذي أراد منه أن يكون معلم البشرية كلها، لقد أراد منه ألا يعلم حتى يتعلم هو، وحتى يعمل بما يعلم، أي حتى يتحقق مما يعلم، ويتخلق بما يعلم.

فمن أين يكون البدء إذن؟ البدء من العلم، هذا أول الطريق للفرد رجلا كان أو امرأة، يجب أن يبدأ التحول فيه بالعلم، أي يجب أن يبدأ بتحويل نفسه انطلاقا من العلم، والعلم المطلوب علم الوحي. هذه هي النقطة التي منها البدء. ينبغي ألا نتجه أي وجهة أخرى، ينبغي ألا نعكس الأولويات، أو أن نأتي إلى بعض التفاصيل أو إلى بعض الأعمال فنقدمها على العلم الصحيح.

والعلم الخالص الصافي هو علم الوحي، الذي يجب أن نرتوي منه إلى أقصى ما نستطيع، إنه هو الأول قبل كل شيء.

هذه نقطة مركزية أساسية في السير، اختارها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، واختارها الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه ذكورا وإناثا، واختارها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لأبنائهم وأحفادهم، واختارتها الأمة على مر التاريخ، فلا ينبغي أن يطرأ على هذه الحقيقة أي اختلال، سواء بالنسبة للسير الفردي أو للسير الجماعي، لأن الخطاب القرآني وإن كان متجها إلى فرد واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمقصود به أيضا الجماعة والأمة والدولة.

ومن مستلزمات هذه النقطة الأولى التي هي أولى الأولويات في حياة الفرد والجماعة والأمة والدولة الإسلامية:

1-
أن التفوق في العلم هو الخيار الاستراتيجي ليعود المسلمون إلى التاريخ، وتعود الأمة سائدة قائدة رائدة، أي عندما تريد أن تكون حيث وضعها الله تعالى في الموقع الطبيعي لها الذي هو الشهادة على الناس، وذلك إنما يكون بالعلم. إن التفوق في العلم بلغة اليوم هو الخيار الاستراتيجي، والطريق المعبد للإمامة الحضارية.

ومعنى هذا أن أكبر حظ في ميزانية الدولة ينبغي أن يتجه إلى العلم، وإلى تكوين الأطر العلمية، فإن ذلك ينبغي أن يقدم على ما سواه في الأمة الإسلامية، كما أن البحث العلمي ينبغي أن تكون له الميزانية الضخمة التي لا تعادلها ميزانية أخرى لأن العلم له الريادة. فالعلم هو الذي يشق الطريق في الصخر، والعلم هو الذي يتم به الابتكار، هو الذي به يتم تعبيد الطريق تجاه التفوق، تجاه الإمامة الحضارية، إذ لا يمكن لأمة أن تنطلق تجاه المسار الصحيح الذي يؤهلها لأن تدرك ما سواها وتتفوق عليه، بدون علم. لهذا كان الانطلاق من العلم هو الخيار الاستراتيجي. هذا الخيار لن تندم الأمة إذا دفعت فيه أقصى ما تستطيع، لأنه الشيء الذي ينبني عليه ما سواه، وهو لا ينبني على سواه.


2-النقطة الثانية: من مستلزمات الانطلاق من العلم أن الإصلاح يبتدئ من الفكر وليس من السلوك. السلوك تابع لما في القلب، لما في العقل، سمه ما شئت، المهم البدء من الداخل الذي يسميه بعضهم التصور، ويسميه بعضهم بالعقيدة أو ما شاء أن يسميه. المهم تلك الأمور التي تكون في الداخل، نوع الأفكار التي عندك في الداخل هي التي ينبغي أن يطرأ عليها التصحيح أولا، لأن السلوك ينبني على ما هنالك من فكر. فالفكر الأعوج يعطي السلوك الأعوج، والفكر الصحيح يعطي السلوك الصحيح، والتصور الصحيح ينتج عنه السلوك الصحيح، ولذلك فالعمل تابع للعلم ولا عكس، ولذلك أقول: الباطن مقدم على الظاهر، وهذا واضح في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" لأن "اقرأ" لا تخاطب الأنف، أو الأذن، أو الرجل، ولكنها تخاطب القلب البشري الذي تحدث فيه التحول، تخاطب باطن الإنسان، على حسب ما يقع في هذا الباطن من تحول من الفساد إلى الصلاح، من المرض إلى الصحة، يكون التحول بعد في السلوك. وعلى حسب الرسوخ الذي يكون في هذه الحقائق الصحيحة يكون الثبات في الخارج عند الابتلاء.


3-
ومن مستلزمات النقطة الأولى كذلك: البدء بالأصل قبل الفرع. فالفرد أصل والجماعة فرع، لأن الجماعة مكونة من أفراد، والدولة مكونة من أفراد، والأمة مكونة من أفراد، وهكذا، وكذلك الفرد مكون من قلب وجوارح، فإذن دائما الأصل يقدم على الفرع، لأننا حين نصلح النقطة المركزية تلقائيا ينصلح ما سواها تبعا لها، فإذن إصلاح الفرد هو الذي يتجه له الأمر أولا، ثم إصلاح الأسر والجماعات يأتي تلقائيا، ثم الأسرة الصالحة والجماعة الصالحة تصبح أصلا لما يتلو بعد من كتل، وكل كتلة تكون نواة لغيرها تعتبر أصلا لغيرها وفرعا عن أصلها، فدائما نظام الأولويات يحكمه هذا المبدأ: "الأصل قبل الفرع"، والأصل الأول قبل الأصل الثاني، والثاني قبل الثالث، والثالث قبل الرابع وهكذا...ولذلك كان الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرأ ويقرئ غيره، ويعلم ويعلم غيره.


4-
 ومن مستلزمات "اقرأ باسم ربك": التبرؤ من كل حول و طول، هذه نقطة مهمة جدا، لأن الأمر بالقراءة ليس أمرا تكليفيا بما لا يستطاع، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن متعلما القراءة حتى يقرأ شيئا مكتوبا، ولكنه أمر تكويني، أي "صر قارئا" بحول الله وقوته، لأن المفعول حين يحذف يكون التركيز على الفعل، وهنا حذف المقروء، فكان التركيز على فعل القراءة، أي "كن قارئا" باسم ربك، لتكون قراءتك باسم ربك -وأنت أمي- من أعظم المعجزات الدالة على نبوتك، ويكون إقراؤك لأمتك وتزكيتها بالعلم الرباني لتصبح خير أمة من أعظم معجزات الوحي الصانع لأمة فريدة في التاريخ الحضاري.

وهذا التعبير "اقرأ باسم ربك" يراد منه أمران كبيران لابد أن نستصحبهما باستمرار، وهما: الاستئذان، واستمداد الحول. كأنك تقول: أستأذن الله تعالى وأتوكل عليه، أي لا أمارس فعل القراءة إلا بعد استئذان الله، ولا أمارسه بحولي، ولكن أمارسه بحول الله وقوته وقدرته.

وإذا كان من المعلوم تاريخيا أن الأحكام كانت تصدر باسم الكاهن، أو الساحر، أو ما أشبه، فإن الواقع أيضا يعرف أحكاما تصدر باسم مجلس الثورة أو باسم رئيس الجمهورية أو ما أشبه، فالتعبير إذن هنا "باسم ربك" يراد منه تصحيح هذا.
وفي مقامنا هذا، ما أمرت به الشريعة يجب أن نقدم عليه متوكلين على الله وحده كائنا ما كان، لا على حولنا ولا على قوتنا، إذ لا حول لنا ولا قوة مهما أعددنا.

وهذه النقطة مركزية، خصوصا وأن الله تعالى علم المسلمين درسا من حنين في ظروف صعبة حيث قال لهم "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا" التوبة/25 التفات القلب إلى غير الله يجلب الهزيمة، فقلب المؤمن لا ينبغي أن يتوكل إلا على الله، وألا يتجه إلا إلى جهة واحدة لا شريك لها هي جهة الله جل جلاله وإن أعد ما أعد، وإن أعددنا ما أعددنا أفرادا أو جماعة أو دولة أو أمة. قال الله تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" الأنفال/ 61 ولكن مع الإعداد لابد من التوكل على الله، لأن التوكل هو القوة التي لا قوة فوقها.

هذا الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا "وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون" العنكبوت/48 ولكنه صار قارئا بحول الله وقوته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق